كان افالد بانزه الالمانى شابا في الثالثة و العشرين من عمره عندما توجهت به السفينة برفقة زوجته من مالطا إلى طرابلس في 29.02.1905 وعند وصوله إلى طرابلس نزل فندقا ثم استأجر بيتا في المدينة القديمة قرب جامع صغير لا يحدد موقعه ، و بعد ستة أشهر انتقل إلى المنشية ، وهى المنطقة الجديدة من مدينة طرابلس خارج السور حيث اجر هناك بيتا حتى رحيله في 31.03.1907
كان بانزه مفتونا بفكرة ما عن الشرق قد تكون راودت الكثير من الجغرافيين و المستشرقين الاروبيين في القرن التاسع عشر. و قد أراد أن يدخل كما قال ، عالم الشرق الغريب عنا ، عن طريق طرابلس. كان بانزه مزودا بحماس الشباب و من الأكيد انه كان متاثرابفكرة الصحوة و التفوق الاوروبى و من الجائز أنه كان متأثرا أيضا بالتفكير الاستعماري لبنى قومه ، و لكن لا يسعنا إلا القول بصحة منهجه لمعرفة أسرار الشرق عندما بدا بتعلم اللغة العربية و اتبعها بانخراطه في البيئة المحيطة به
سعى بانزه إلى تعلم العربية قراءة و كتابة و محادثة ، و كان خادمه صالح بن عبد الله الفزانى الذي تكلم الايطالية بطلاقة و بعض الفرنسية عونا كبيرا له. تعلم بانزه الكتابة و كان يحمل كراسه أينما توجه يسجل فيه الكلمات الجديدة التي تعلمها بالاضافه إلى ملاحظاته الاجتماعية. سعى بانزه إلى تعلم طريقة التفكير الشرقية حتى قال
و أخيرا توصلت إلى درجة التعود على أن اعبر عن أفكاري ببعض الجمل العربية و أصبحت بعض الحركات و التصرفات الشرقية جزء منى.
كان بانزه متحمسا و مثابرا لمعرفة هذا العالم الغريب عنه ،وكان مهتما بالقضايا الانتروبولوجية والاجتماعية ، و مما لاشك فيه أن وجود زوجته معه قد ساعده في اخذ فكرة ما ، و قد تكون خاطئة أحيانا ، عن عالم المرأة و الأسرة الطرابلسى.
رغب بانزه في القيام برحلة للدواخل تشمل طرابلس و فزان و برقة و لكنه وصل في وقت أصبح فيه الباب العالي متوجسا من الاطماع الاستعمارية لقضم أخر ما تبقى له من أملاك في شمال إفريقيا ، و لذا لم يتحصل على الموافقة العثمانية على ذلك. حاول بانزه القيام سرا برحلة إلى غريان و منطقة الجبل الغربى برفقة زوجته و اثنين من أصدقائه الألمان تستغرق عدة أسابيع . و لكن المحاولة أحبطت في اليوم الثالث من الرحلة حيث داهم رجال الدرك مخيمه و أعيد إلى طرابلس بأدب بالغ و لكن بحزم.
غادر بانزه طرابلس يوم 31/03/1907 متوجها إلى مصر ، و لكنه سيرجع إليها لاحقا في رحلتين في 1909 و 1914 ، وبقى لنا كتابه عن طرابلس الذي نشر في عام 1912 وهو لذي يجمع معظم ملاحظاته خلال رحلته الأولى و الثانية.
مقتطفات
البداية
حول تعلم اللغة كتب بانزه …
لقد استفدت من الوقت و كرست في البداية كل جهودي لدراسة اللغة العربية و افادنى في ذلك على وجه الخصوص خادمي صالح بن عبد الله
و يذكر بأن تعلم العربية لا يخلو من مشاق ، و لكن…
و على كل حال فانك بعد عدة أسابيع تغدو قادرا على التعبير عن ألح الحاجات و تتوجه الى السوق مسرورا لكي تتمرن
على الكلام فأنت ما شاء الله تعتقد بأنك تسمع من الحاج أحمد لغة جديدة تماما ، و من الحاج إبراهيم عبد الله لغة جديدة اخرى . و كل واحد في هذه المدينة الشرقية يبدو و كأن له تعابيره الخاصة.
و ببطء شديد تأخذ الأذن تتعود على التباين الشديد في العربية التي يبدو و كأن كل واحد بتكلمها حسب ذوقه و على هذا الأساس أصبح من الممكن الافتراض بأن للعربية نفسها في مدينة واحدة تعابير إلى جانب بعضها البعض فمثلا في طرابلس كلام اليهود مع أبناء البلاد مغاير لكلام المسلمين. و بين هؤلاء فأن الحمال يتكلم على نحو مغاير لكلام أغلبية أصحاب الدكاكين و يمكن تفسير هذه الظاهرة بأن الغالبية لا يعرفون القراءة و الكتابة فتفتقد الضوابط ، و بذلك تغيب تدريجيا معايير اللغة و تثبت الفوارق
و أما عن ناحية إعداد مخطط المدينة فقد كان مهمة تحف بالمخاطر ، حيث …..
و كانت الإدارة العثمانية تتوجس من جواسيس إفرنج و لا سيما الجواسيس الايطاليين ، فقد يتاح لهم إذا وضعوا خططا
للمواقع و التحصينات ، فتح الباب لدخول القوة الأجنبية إلى القطعة الأخيرة من إفريقيا العثمانية. و من جهة اخرى على أن أحذر من لفت انتباه الايطاليين لأنهم يخشون دائما منافسة الدول الأوربية الأخرى
و أما عن الحياة اليومية في طرابلس فيذكر بانزه بأن النهار يبدأ كما يلي
أما البيوت المجاورة فمازالت صامتة و شيئا فشيئا تبرز جدرانها البيضاء مثل الثلج. ثم يأتي صوت من جهة ما ليقضى على هذه الدقائق الصامتة ، بعدئذ يأتي قطيع من الماعز بأصواته الواضحة ليلتف حول الزاوية ، و يتقدم الراعي المالطي حافي القدمين مرتديا سروالا ربط بحزام واحد و قميصا ملونا من الكتان و فوق الوجه المشرد قبعة صغيرة تبرز منها أذن. انفتح الباب المواجه لنا و امتدت يد نسائية حنطيه اللون بوعاء زجاجي ليملاه الراعي حليبا من الضرع.”
ثم بعد حين
في تلك الإثناء ازدادت الحركة في الخارج ، إن ولدا يرتدى قميصا وسخا و سروالا قصيرا رثا يقفز فوق بروزات و حفر الزقاق و يوازن سلة فيها عجين مقلي بالزيت اصفر و اخضر و ينادى بصوت حاد: اسفنز اسفنز و هو محبب كطعام صباحي ، و بعد السنفاز يأتي رجل أسود متقدم في السن و بكل هدوء يضع المنقل الحديدي على الأرض و يضع على الفحم إبريقا من الصفيح بكرج و يدعه حتى يسخن ثم يصب الخليط الذي يغلى في داخله و قوامه الماء و النشا و الكمون المطحون في فنجان و يرش عليه القرفة. و يسير بعدئذ و يصيح السحلب فاح ، السحلب فاح ، ثم يختفي تحت القوس ، إلا أنه يأتي بعده اللبان صائحا ، و اللبان شاب جسيم يحمل خشبة علق على طرفيها فنجالان بيضاوان فيهما لبن أو ما يدعوه الأتراك يوغرط. وهو حليب حامض منعش ، و على كل حال فانه قلما يكون نظيفا و يحمل خطر العدوى
و ترتفع الشمس في السماء ، و يخرج بانزه برفقة صاحب له حيث يسير عبر أزقة ضيقة و هادئة حتى يصل إلى ميدان الساعة و يجلس في المقهى الذي يديره مهاجر اوربى أشقر أحمر الخدين لعله من مسلمي البلقان و يطلب و صاحبه فنجاني قهوة واحدة قد قد وواحدة حلوة تكلفهما ما يعادل 4 بفينيغ للفنجان الواحد ، و يأتيهما الصبي بالقهوة و في يده ملقط يمسك جمرة من الفحم لإشعال السيجارة التي لفت على عجل، و يشربان القهوة حسب المعتاد برشفات صغيرة متتالية بسرعة و يتفرغان لممارسة التطبيق العملي لعلم الأجناس ، كما يقول في كتابه ، أى أنه يبدأ فى تدوين ملاحظاته على ما يراه أماه من نماذج بشرية – من أبناء الريف و البادية من عرب و بربر ، من تجار القوافل الغدامسية و تجار طرابلس الأغنياء ، من سكان الدواخل الذين يأتون للمدينة مسلحين ببنادقهم إلى الحرفيين صانعي الأسلحة فيما يصنعون ، إلى اليهود و النصارى ، إلى الأتراك سواء التقليديين أم الأتراك الشباب الثوريين ، الخ..الخ.
يمثل كتاب بانزه في رأى جهدا فوق العادي من صاحبة لمحاولة معرفة وسط غريب عنه ومحاولة فهمه ، وقد يكون هو نفسه جزء من الأطماع الاستعمارية الألمانية ، حول طرابلس رغم أن الايطاليين اعتبروا ليبيا ملكا لهم حتى قبل أن تطأ أرجلهم أرضها.
جاء بانزه لطرابلس في بداية هذا القرن وهى بالكاد تستيقظ من سبات طويل مر قرونا ، حيث اقتنع الأتراك العثمانيون – بعد فوات الأوان – بان إدارتهم لولاياتهم كانت سبب تخلفها في وقت أصبحت فيه الدول الأوربية تتصارع لقسمة تركة الرجل المريض فيما بينها. و ستتعرض طرابلس و ليبيا كلها في بداية العقد الثاني من القرن العشرين عن طريق الغزو الايطالي لصدمة كهربائية ذات ضغط عالي فوق العادة لاستيقا ظها من سباتها العميق.
و سيسمع العالم عن طرابلس اخرى ، ليست طرابلس القوافل مع وسط إفريقيا ، بل طرابلس المقاومين و المحاربين لأشداء الذين ابلوا بلاء حسنا للدفاع عن وطنهم ، مما دعا بانزه لنشر كتابه عنها في سنة 1912 ، و جعل أيضا السيدة الأمريكية مابل تود تنشر كتابها في السنة نفسها عن طرابلس الغامضة الذى سجلت فيه مذكراتها عن إقامتها بطرابلس مرتين مابين سنة 1900 و سنة 1905
1 comment:
شكرا غريانى على هذه المقالة المميزة , كل ملاحظات الالمانى كانت ذكية خصوصا فى المفارقات اللغوية بين ابناء الشعب الواحد ,و جميل وصف طرابلس فى الصباح ,و أمر مثير للأهتمام ان ليبيا كانت ارضا مجهولة عن العالم حتى وقت الجهاد ضد العدوان الايطالى ..و كأنه هناك حلقات كثيرة مفقودة فى عتمة الزمن فى الارض الليبية قبل بدء الجهاد الليبى , و مغامرين مستكشفين اجانب أعطونا لمحات خفيفة عن تلك الحلقة المفقودة لكنه حتما لازال الكثير خافى عنا عن طرابلس القديمة و قصصها ..
Post a Comment