مع الشكر للمغربية
يومية تصدرها مجموعة ماروك سوار
يومية تصدرها مجموعة ماروك سوار
خص الكاتب الليبي الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه "المغربية" بنشر فصول من الرباعية الروائية الجديدة "خرائط الروح"، التي انتهى أخيرا من إنجازها، ليطلع القراء على هذا العمل الأدبي الكبير لصاحب الثلاثية الشهيرة "حدائق الليل"، التي اعتبرها النقاد علامة بارزة في تاريخ تطور السرد الروائي العربي.
" بدأ الأمر بسيارة شحن تقف في باحة السوق.تسللت اليها بمساعدة السائق لتنام بين غرائر الفحم، وانتظرت عدة ساعات، تتنفس الغبار الأسود، وتنصت إلى صخب السوق، وتتمتم بالأدعية والتعاويذ كي لا يكتشف أحد أمرك، مرددا تلك الآية التي سمعت من أحد المعلمين في الزاوية، إنها تحجب الإنسان عمن يلاحقه إذا رددها وهي "وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون".حتى سمعت محرك الشاحنة يدور، ثم أحسست بها تتحرك، وتهبط المرتفع الذي يصل القرية بالطريق العام إلى العاصمة، وانتظرت بضع لحظات قبل أن ترفع رأسك من تحت أشولة الفحم، وتتنفس هواء الله الطبيعي، وعندما رفعته، ورأيت ابنية القرية تتراجع، أدركت أن فصلا من فصول حياتك قد انقضى، وأن فصلا جديدا قد بدأ الآن.مرغما تخرج من القرية، ولست نادما على شيء لأنه من قبل أن يأتي هذا الإرغام، فإنه لم يكن هناك ما يغريك بالبقاء في قرية يقتلك فيها الضجر، وتطاردك سحب الذباب وارتال القمل والبراغيت، بلغ عمرك ربع قرن، ولاشيء أمامك يعد بأي تبدل في حالتك، رعيت الجديان وحفظت القرآن في الزاوية السنية وتحولت بعد ذلك إلى مساعد لمعلم الصبيان، تتبعه بالإبريق لتصب على قدميه الماء وهو يتوضأ وتشتغل خادما له أكثر مما تشتغل معلما للقرآن، ولا زلت تسرح بالشياه في أوقات الفراغ كحال أي رجل لم ينل تعليما، برغم كل ما نلته من تأنيب وتعزير وضرب على قدمك بالفلقة حتى اكملت حفظ القرآن وسيمضي عمرك في القرية على هذا المنوال، أقصى ما سوف تكسبه من تعليمك هو كلمة الشيخ التي صار الناس يلحقونها باسمك فأنت الشيخ عثمان الشيخ، وأقصى ما يميزك عن بقية أهل القرية الأميين هو أنهم يأتون إليك لتقرأ لهم ما تصلهم من جوابات، أو تكتب لهم رسائلهم دون أن تنسى كتابة ذلك السطر في ختام الرسالة الذي يشير آلي كاتبها وهو "والسلام ختام من كاتب الحروف، العبد المعروف عثمان الشيخ"حتى لو كان الشخص الذي تخاطبه الرسالة شخصا لا تعرفه فهو نوع من إثبات الوجود والتباهي بتقديم هذا الصنيع .لم تكن هناك أوجه استخدام أخرى للعلم الذي حصلت عليه غير هذا الاستخدام المجاني الذي لا يجلب رزقا عدا القليل من البيض يجود به عليك الفقي عبد الله مما يتلقاه من الأطفال مقابل تعليمهم، لأن هذا كل ما تستطيع قرية "أولاد الشيخ" تقديمه لمعلمي أولادها، وتدرك جيدا أن أقصى ما تحلم بالوصول إليه هو أن تحتل مكان الفقي عبد لله إذا غادر قبلك هذا العالم بعد عمر طويل، أو تنافس الفقي بركة في كتابة الأحجبة بضريح الشيخ الكبير، أما غير ذلك فلا شيء حتى لو قرأت كتب الأولين والآخرين واكتسبت علومهم، ستبقى كما أنت لأنه لا مكان في أولاد الشيخ لذلك العدل القرآني الذي يحفظ لأهل العلم قدرهم كما تقول الآية الكريمة »وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون«، فكلهم سواء لدى أهل اولاد الشيخ ."
.....................
" وإذا كانت بأضادها تعرف الاشياء، فقد وضعت في ذهنك صورة للحياة في مدينة طرابلس، تناقض ما في القرية من بؤس وصمت وفراغ وحياة روتينية مكرورة باهتة، دون أن تدري على وجه اليقين ما تخبئة لك الحياة فيها، ودون أن تملك خطة للكيفية التي ستواجه فيها الحياة في مدينة تاتي إليها غريبا ولا تعرف فيها أحدا.كل ما يملأ راسك هو الصورة التي صنعها خيال القرية عن المدينة العامرة بالأضواء التي تحيل الليل إلى نهار، ولا يركب الناس فيها إلا السيارات أو العربات الأنيقة التي تجرها الخيول ذات السروج والألجمة المطهمة بالذهب والفضة، وتتمخطر في شوارعها وفوق أرصفتها نساء متزينات، متبرجات، يفوح العطر الجميل من أردانهن، سافرات الوجوه، حاسرات الشعور، تكشف الملابس التي يرتدينها عن الأذرع والسيقان وأحيانا ما هو اكثر من ذلك، وتقام في ساحاتها وميادينها وشوارعها حفلات الرقص والغناء التي يوزع فيها الطعام والشراب مجانا، كما تقام في ملاعبها سباقات الخيل والسيارات ورياضات أخرى لا حصر لها، هذا غير المنتزهات والحدائق والمسارح ودور العرض السينمائي والأسواق والمتاجر الكبيرة الحافلة بكل ما تشتهي الأنفس من مطاعم ومشارب وفواكه في غير موسمها مجلوبة من مشارق الأرض ومغربها، وحدائق الورد والنوافير التي يزغرد فيها الماء ويخرج مصبوغا بمختلف الألون من أجل الزينة وإشاعة البهجة في قلوب الناس، وأهل طرابلس الذين يسكنون القصور ويرتدون ألبسة الحرير ويأكلون بملاعق الذهب، ويأتي قبل هذا وذاك البحر، هذا المدى اللامتناهي من الماء الذي بهر كل من رآه من أهل قريتنا، الذين يتشوقون لرؤية بركة صغيرة من الماء يصنعها المطر سرعان ما تغور في الأرض، ثم يشاهدون هذا البحر الزاخر بامواجه العاتية والسفن تشق عبابه، يحضن مدينة طرابلس من ثلاث جهات، وقد كثرت حوله المنتزهات والشواطئ المخصصة للسباحة والأحواض المخصصة لقوارب النزهة، هذا البحر الذي كان موضوعا للأساطير والقصص والخراريف التي كنا نسمعها من سيدات العائلة قبل أن ننام ونحن أطفال، فجئت محملا بشوق عارم لكي تراه .كنت وانت تسمع هذا الكلام عن المدينة، تستطيع أن تفرز الحقيقة من الخيال، وتعرف أن المدينة ليست كلها منتزهات وملاه وقصور ورقص وغناء وأغذية ومشروبات توزع مجانا في الحفلات، وأن هناك كدح وتعب، وفقر وبؤس، وهناك عناء وجهد وعمل وذكاء لمن يريد تحقيق النجاح والثراء، وكنت مستعدا لبذل كل ما تستطيع تقديمه من جهد وكدح لتحقيق النجاح في المدينة، مدركا أن مهمتك الأولى في المدينة هي العثور على عمل ، تصرف فيه نهارك كله، وتؤمن من خلاله مصدر رزق لك، وتصنع لنفسك جذورا، وتبدأ رحلة الانطلاق نحو ما تسعى لتحقيقه من رفعة ورقي. "
.....................
" وإذا كانت بأضادها تعرف الاشياء، فقد وضعت في ذهنك صورة للحياة في مدينة طرابلس، تناقض ما في القرية من بؤس وصمت وفراغ وحياة روتينية مكرورة باهتة، دون أن تدري على وجه اليقين ما تخبئة لك الحياة فيها، ودون أن تملك خطة للكيفية التي ستواجه فيها الحياة في مدينة تاتي إليها غريبا ولا تعرف فيها أحدا.كل ما يملأ راسك هو الصورة التي صنعها خيال القرية عن المدينة العامرة بالأضواء التي تحيل الليل إلى نهار، ولا يركب الناس فيها إلا السيارات أو العربات الأنيقة التي تجرها الخيول ذات السروج والألجمة المطهمة بالذهب والفضة، وتتمخطر في شوارعها وفوق أرصفتها نساء متزينات، متبرجات، يفوح العطر الجميل من أردانهن، سافرات الوجوه، حاسرات الشعور، تكشف الملابس التي يرتدينها عن الأذرع والسيقان وأحيانا ما هو اكثر من ذلك، وتقام في ساحاتها وميادينها وشوارعها حفلات الرقص والغناء التي يوزع فيها الطعام والشراب مجانا، كما تقام في ملاعبها سباقات الخيل والسيارات ورياضات أخرى لا حصر لها، هذا غير المنتزهات والحدائق والمسارح ودور العرض السينمائي والأسواق والمتاجر الكبيرة الحافلة بكل ما تشتهي الأنفس من مطاعم ومشارب وفواكه في غير موسمها مجلوبة من مشارق الأرض ومغربها، وحدائق الورد والنوافير التي يزغرد فيها الماء ويخرج مصبوغا بمختلف الألون من أجل الزينة وإشاعة البهجة في قلوب الناس، وأهل طرابلس الذين يسكنون القصور ويرتدون ألبسة الحرير ويأكلون بملاعق الذهب، ويأتي قبل هذا وذاك البحر، هذا المدى اللامتناهي من الماء الذي بهر كل من رآه من أهل قريتنا، الذين يتشوقون لرؤية بركة صغيرة من الماء يصنعها المطر سرعان ما تغور في الأرض، ثم يشاهدون هذا البحر الزاخر بامواجه العاتية والسفن تشق عبابه، يحضن مدينة طرابلس من ثلاث جهات، وقد كثرت حوله المنتزهات والشواطئ المخصصة للسباحة والأحواض المخصصة لقوارب النزهة، هذا البحر الذي كان موضوعا للأساطير والقصص والخراريف التي كنا نسمعها من سيدات العائلة قبل أن ننام ونحن أطفال، فجئت محملا بشوق عارم لكي تراه .كنت وانت تسمع هذا الكلام عن المدينة، تستطيع أن تفرز الحقيقة من الخيال، وتعرف أن المدينة ليست كلها منتزهات وملاه وقصور ورقص وغناء وأغذية ومشروبات توزع مجانا في الحفلات، وأن هناك كدح وتعب، وفقر وبؤس، وهناك عناء وجهد وعمل وذكاء لمن يريد تحقيق النجاح والثراء، وكنت مستعدا لبذل كل ما تستطيع تقديمه من جهد وكدح لتحقيق النجاح في المدينة، مدركا أن مهمتك الأولى في المدينة هي العثور على عمل ، تصرف فيه نهارك كله، وتؤمن من خلاله مصدر رزق لك، وتصنع لنفسك جذورا، وتبدأ رحلة الانطلاق نحو ما تسعى لتحقيقه من رفعة ورقي. "
7 comments:
شكرا على اعادة نشر هذا المقتطف من رواية الاديب أحمد ابراهيم الفقيه فقط اردت ان اضيف معلومة وهي أن الرواية تقع في اثنى عشر جزءً وقد صدرت مؤخرا من بيروت في طبعتين واحدة الاولى مجلد واحد كاملة في اكثر من الف صفحة والثانية متفرقة على اثنى عشر جزء وستعتبر أكبر عمل روائي في تاريخ الأدب العربي المعاصر
غازي
شكرا جزيلا على معلومتك ، فى بنغازى ، مازلنا فى انتظار طبعة المجلد الكامل . و نعم هذا عمل كبير فى تاريخ الادب المعاصر .
أشكركَ أخي علي هذا التعريف بهذه الرواية
---------------
تعقيب صغير:
أليس غريباً يا أخي أننا كبشر لا نهتم
بكتابات الأديب إلا بعد وفاته:)
كنوع من رد الجميل أو تعريف الناس به:)
أعدرني لكلماتي ولكنني كجزء من عائلة برفسور علم رجل قبل رحيل
الأستاد أحمد ابراهيم الفقيه حسن
احس بهذه اللفتات والتي أقدرها منك ومن الجميع
ولكن أليس بعد فوات الأوان فلم يتسني للكتاب رؤية محبي كتاباته
ولبرما تمكن من رؤية ذلك ولكن ليس بهذا القدر من الإهتمام
---
الأستاد كان رجل من رجال صندوق التضامن الإجتماعي ...فقط للعلم
يا هبة أولا نحن نعيش فى محيط واسع به جزر صغيرة نحن نسكنها . أنا شخصيا لم أعرف بوجود فاطمة عثمان الا من قصيدة أنا ليبيا لبدرية الاشهب ، و لا أعرف عن وفاة الاستاذ أحمد أبراهيم الفقيه الا منك ، فرحمة الله عليه و الفاتحة على روحه . نحن لانكرم حقا من سبقنا و لا أعتقد بأن هنا من سيكرمنا لاحقا .
الاعزاء
معذرة أردت فقط تصحيح ما يبدو أنه سوء فهم، د. أحمد ابراهيم الفقيه الكاتب الليبي صاحب الثلاثية الشهيرة حي يرزق ويستعد للإحتفال باصدار مجلد روايته الكبيرة الضخم خرائط الروح.
أما من تقصده العزيزة هبة على حسب اعتقادي فهو الاستاذ ابراهيم الفقيه حسن وهو من رواد صندوق الضمان الاجتماعي وهو النجل الأكبر للزعيم الوطني الكبير على الفقيه حسن، الذى عقد فى منزله بوسعاية الفقيه حسن سنة 1944 أول تجمع وطني تم الاتفاق فيه على تأسيس الحزب الوطني. وتوفي في 30 يونيو 2006
غازي
شكرا يا غازى على التصحيح ، و أطال الله فى عمر كاتبنا د. أحمد ابراهيم الفقيه
شكرا اخي غازي- اعدرني التشابه في الاسماء كبير ولم انتبه للاسم الاول تمام الانتباه
ولكن ماذكرته يظل قائماَ
Post a Comment